
إبادة السكان الأصليين في غزة
طفل يفرك الرماد عن عينيه. طفل يسدّ أذنيه خشيةَ صوت الانفجار. طفل في زاوية الغرفة لا يتحرك من الوهن. طفل غير قادر على النوم أو مصارعة اليقظة. طفل يقف بمدخل الخيمة يطلب خبزاً. طفلٌ ميّت.
في غزة وطنٌ بمليوني لاجئ فلسطينيّ يعيشون نكبتهم المستمرّة، يستوي بصحوهم منامُهم، لا فرق للساعات في حساب اليوم ومجرياته، ليس مهماً من يموت صباحاً أو من يؤجّل موته إلى الليل، ولا يغنيه عن الموت أن يكون صحافياً، أو طبيباً، أو طفلاً.
ليس بين عيال غزة طفلٌ سويّ، كلهم مرضى، منكوبون، مصابون، جائعون وأنصاف عراة، أنصاف أحياء، مثقوبة أرواحهم وعاجزون عن فعل شيء. كبارُ غزة مثل صغارهم، مسلوبو الأرواح والقدرة، هياكل يمشون ببقايا كرامة وأَنَفة، الرجال مقيّدون إلى الأرض، والنسوة سجينات خلف قضبان مركّبة.
مِرجَلٌ ضخمٌ غزة، يكفي لمليوني فلسطينيّ، نتذكر أن نكرّر عندما نحكي عن أهل غزة أنهم فلسطينيون، عزلُهم سهواً عن السياق الأكبر للقضية يقصيهم عن العمق التاريخيّ والاتصال بالجذور. أرض القطاع ليست سياجاً خارج فلسطين، مهما أصرّ الاحتلال على ذلك، ومهما روّجت هذه السردياتِ الأبواقُ المضادّةُ لحق الشعب الفلسطينيّ في أرضه.
يجلس العالم القرفصاء، ويتابع بعينين باردتين المجزرة اليومية، يشارك ـ بالصمت والمشاهدة ـ في التطهير العرقيّ الذي يمارسه جيش الاحتلال لمحو فلسطينيي غزة، ومهما تخيّلنا، فإن أقصى خيالاتنا قاصرة عن استيعاب أننا نشهد عمليات الإعدام اليومية منذ سنتين متصلتين، دون أن تقدّم البشرية بملياراتها الثمانية خطوة واحدة من شأنها إيقاف آلة القتل، دون أن تطرف أعيننا عن المصفقين لموت الفلسطيني باعتباره شهادة ونصراً، وكأنّ الفلسطيني يولد ليموت.
بالأرقام، تحوّل الموتى إلى بيانات إحصائية، 60,000 ـ يزيدون قليلاً أو كثيراً بمرور الوقت ـ انتهت حياتهم، نصفهم من النساء والأطفال، والنصف الآخر رجالٌ عٌزّل. لا شيء يمنع المحتلّ عن مواصلة مهماته اليومية، يذهب موظفو جيش الاحتلال إلى أعمالهم، لديهم أهداف دورية لتحقيقها: مسحُ غزة عن الخريطة هو الهدف الأكبر، إعادةُ احتلالها، طرد من يتبقى من الفلسطينيين خارجها، وفي الطريق إلى ذلك: قتل من يمكن قتلهم منهم.
الذين يشاهدون ما يجري في غزة موتى أيضاً، والذين يزايدون على بعضهم البعض موتى أيضاً. الذي يختار الكلام ميّت، والذي فضّل الصمت مثله كذلك، والذين بين بين موتى أيضاً. الذي نأى بالسكوت أودع قلبه في ثلاجة الموتى، والذي يتحدث ميتٌ من هول احتراقه بما يرى، والذي يقف متذبذباً تقتله الحيرة ويقتله الخوف، وكلهم أماتهم العجز وأغلق عيونهم ضعف الحيلة.
لنتفق على أن مصطلح الإبادة ربما لا يكون التعبير الأدق لوصف ما يحدث في غزة اليوم، حيث أن هذا المصطلح يشير بشكل ما إلى القتل المتعمد لأعداد هائلة من البشر. ما يحدث للفلسطينيين في غزة أكثر تعقيداً، يشمل عنفاً مباشراً ومتعمداً، وتدميراً للمجتمع، وسحقاً للهوية الثقافية بامتدادتها العربية والدينية، والتخلص من البشر عبر قتل موجَّه ومستهدِفٍ وَممنهج، يتضمن إزالة عائلات بأكملها من الوجود، كأنهم لم يكونوا يوماً، وكأن هذه الأرض ما عرفت منهم إلا الدم الذي سال واختلط بترابها.
في نوفمبر 2023، وبعد أسابيع من بدء الحرب على غزة، قالت شقيقتي إن الحرب طالت، قلتُ إنها لن تتوقف هذه المرّة، طالما أن الحماية الأميركية مستمرة للإبادة التي يمارسها الاحتلال، فإن الأمر سيستمر حتى تزول هذه الأرض بمن فيها. هذا ليس تشاؤماً، لكنه محاولةٌ لاستيعاب أن التاريخ يدور في الحلقة ذاتها، تتغير فيه الوجوه والأسماء، أما همجية الإنسان لا تتغير.
ما أشبه الليلة بالبارحة، فعل الأميركيون الجدد، أبناء الثقافة الأوروبية ـ وبدعم منها ومن ساستها ـ فعلتهم ذاتها بالسكان الأصليين لأرض الولايات المتحدة. واليوم، الإسرائيليون أبناء الثقافة الأميركية وبدعم منها ومن ساستها يبيدون العِرق الفلسطينيّ، ويسعون في إلغاء هذا الشعب من الوجود، لا فرق بين الجريمتين، سوى أن الأولى نُقلت عبر الرواة، فاختلطت أحداثها وتباينت الأرقام فيها، رغم ثبوت حقيقة الاضطهاد الذي تعرّضوا له، بينما تحدث الثانية يومياً على مرأى ومسمع الشاشات، والموبايلات، وجميع سكان الكوكب، بينما يجلس العالم القرفصاء، ويتابع المجزرة بعينين باردتين.